لقد كان المتنبي شعلة من ذكاء وعظمة من فطنة وآية من عقل، وكانت نفسه ثائرة لا ترى لأحد فضلاً ولا تعترف بعظمة غير عظمتها.
إن أكن معجبا فعجب عجيب _________________________
ما رأى فوق نفسه من مزيد _________________________
وإن من يدرس نفسية أبي الطيب ويمحص آراءه يطلع من تصريحاته وتلميحاته على أن ليس هناك رجل يستحق المكانة العليا والزعامة الكبرى سواه:
أنا في أمة تداركها اللـ _________________________
ـه غريب كصالح في ثمود _________________________
ما مقامي بأرض نخلة إلا _________________________
كمقام المسيح بين اليهود _________________________
وهو لا يرى الناس إلا ترابا ملقى لا قيمة له ولا فائدة فيه وإن كان هو منهم فإنما الذهب من التراب واللؤلؤ من الصدف والسحاب من البحر.
ودهر ناسه ناس صغار _________________________
وإن كانت لهم جثث ضخام _________________________
وما أنا منهم بالعيش فيهم _________________________
ولكن معدن الذهب الرغام _________________________
ثم هو مع هذا الاحتقار لعامة الناس كافة لا يعترف للخاصة بأي ميزة فعالمهم عنده جاهل. وكيسهم غبي وكريمهم لئيم، وذو البصيرة أعمى.
أذم إلى هذا الزمان أهيله _________________________
فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد _________________________
وأكرمهم كلب وأبصرهم عم _________________________
وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد _________________________
ونظرة إلى حياة المتنبي نجد أن الغالب على طبعه طلب المجد وحب المخاطرة والسمو إلى عيش القوة والسيطرة فهو لا يريد أن يخضع ولا أن يذل ولا أن يظهر بمظهر المستكين..
لتعلم مصر ومن بالعراق _________________________
ومن بالعواصم أني الفتى _________________________
وأني وفيت وأني أبيت _________________________
وأني عتوت على من عتى _________________________
وينظر أبو الطيب إلى الحياة نظرة فيها الكثير من القسوة فهو يعترف بالقوة في كل شيء وهي المسيطرة ولذلك سيتخذها طريقا لمجده، وسيحارب كل من يقف في وجهه، وليس هناك غاية تعز عليه أو تعجزه، وليس هناك من يستطيع رده عن مراده..
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ _________________________
كأنهم من طول ما التثموا مرد _________________________
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا _________________________
كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا _________________________
وبالطبع من كان هذا جنده سيكون النصر حليفه وهو لا يقيم على ضيم، ولا يقبل أن يكون عرضه للإهانة، لأن نفسه الكبيرة لا تستعظم غير ذاتها وروحه العالية لا تقبل إلا حكم خالقه.
تغرب لا مستعظما غير نفسه _________________________
ولا قابلا إلا لخالقه حكما _________________________
وفي هذا القول رد على من يزعم أنه ادعى النبوة وأنه قليل الإيمان بالله ، ولا يخفى ما في هذا البيت من تطلع إلى الحرية وإباء عظيم وشموخ عال.
وهو يؤمل أن يعيد لأقوام مدحهم حربا شعواء.